ص1      الفهرس    المحور 

 

نص من التراث

القرآن والعلوم الكونية

يقول الإمام أبو إسحق الشاطبي:

"هذه الشريعة المباركة أمية، لأن أهلها كذلك، فهو أجرى على اعتبار المصالح"

"ما تقرر من أمية الشريعة وأنها جارية على مذاهب أهلها، وهم العرب، ينبني عليه قواعد:

منها: أن كثيرا من الناس تجاوزا في الدعوى على القرآن الحد، فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين أو للمتأخرين: من علوم الطبيعيات، والتعاليم، والمنطق، وعلم الحروف، وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها. وهذا إذا عرضناه على ما تقدم(1) لم يصح. وإلى هذا فإن السلف الصالح، من الصحابة والتابعين ومن يليهم، كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شيء من هذا المدعى سوى ما تقدم وما ثبت فيه من أحكام التكليف وأحكام الآخرة وما يلي ذلك. ولو كان لهم في ذلك خوض ونظر لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة. إلا أن ذلك لم يكن، فدل على أنه غير موجود عندهم. وذلك دليل على أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشيء مما زعموا. نعم تضمن علوما هي من جنس علوم العرب أو ما ينبني على معهودها، مما يتعجب منه أولوا الألباب، ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة دون الاهتداء بأعلامه والاستنارة بنوره، أما أن فيه ما ليس من ذلك فلا []

ومنها: أنه إنما يصح، في مسلك الأفهام والفهم، ما يكون عاما لجميع العرب، فلا يتكلف فيه فوق ما يقدرون عليه بحسب الألفاظ والمعاني، فإن الناس، في الفهم وتأتي التكليف فيه، ليسوا على وزان واحد ولا متقارب، إلا أنهم يتقاربون في الأمور الجمهورية وما والاها، وعلى ذلك جرت مصالحهم في الدنيا ولم يكونوا بحيث يتعمقون في كلامهم ولا في أعمالهم إلا بمقدار ما لا يخل بمقاصدهم".

 

 

أبو اسحق الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة. الجزء الثاني. المكتبة التجارية الكبرى القاهرة، ص79 وما بعدها.

والشاطبي هو أبو اسحق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي الغرناطي المتوفى سنة 790هـ (كان معاصرا لابن خلدون) أشهر مؤلفاته: كتاب "الموافقات" المذكور وهو في أصول الفقه، فريد في بابه، وكتاب "الاعتصام" وموضوعه البدع وأحكامها. يقول عنه الشيخ رشيد رضا محقق هذا الكتاب الأخير: "كان أصوليا مفسرا فقيها، محدثا لغويا بيانيا، نظارا ثبتا، ورعا صالحا، زاهدا سنيا، إماما مطلقا، بحاثا مدققا، جدليا بارعا في العلوم، من أفراد العلماء المحققين الأثبات، وأكابر الأمة الثقات".

ويقول الأستاذ عبد الله دراز، شيخ علماء دمياط (بمصر) في زمانه، عن كتاب "الموافقات" ما نصه: "لو اتخذ منارا للمسلمين، بتقريره بين العلماء وإذاعته بين الخاصة، لكان مذبة تطرد أولئك الأدعياء المتطلفلين على موائد الشريعة المطهرة، يتبجحون بأنهم أهل للاجتهاد مع خلوهم من كل وسيلة، وتجردهم من الصفات التي تدنيهم من هذا الميدان، سوى مجرد الدعوى وتمكن الهوى وترك أمور الدين فوضى بلا رقيب. فترى فريقا ممن يستحق وصف الأمية في الشريعة يأخذ ببعض جزئياتها يهدم به كلياتها، حتى يصير منها إلى ما ظهر له ببادي الرأي من غير إحاطة بمقاصد الشريعة لتكون ميزانا في يده لهذه الأدلة الجزئية، وفريقا آخر يأخذ الأدلة الجزئية مأخذ الاستظهار على غرضه في النازلة العارضة، فيحكم الهوى على الأدلة حتى تكون الأدلة تبعا لغرضه، من غير إحاطة بمقاصد الشريعة"n

(انظر عرضا لكتاب حول "أثر الشاطبي في الفكر السلفي بالمغرب" في باب "متابعات" من هذا العدد).

 


(1)  من كون الشريعة الإسلامية أمية نزلت على معهود العرب ومستواهم الحضاري والفكري